وجوه الإلهام

يوسف بخيت


أكثر ما يشغل بال المبدعين العثور على فكرة، وهذا يتأتى أولاً بميلاد لحظة الإلهام، وما بين طول الوقت أو قصره تُشرق الفكرة، وتظهر أول خيوط النور لها، تمامًا كما تظهر خيوط الشمس صباحًا؛ فينبعث الدفء في أصابع المبدع، وينطلق في إبداعه جذلاً، يلملم أجزاء فكرته، ويعيد ترتيبها آنًا بعد آن، وأثناء هذا الشغل الشاغل، يمر بباله وجهٌ أثير لديه، فيلهمه زيادةً جميلة في فكرته، ويدفعه إلى إعادة النظر فيما أنجز، ومن حيث علم أو لم يعلم، فإن هذا الوجه مرشده ودليله إلى تحسين فكرته وإخراجها بأفضل صورة.
تتعدد وجوه الإلهام في حياة البشر، وعلى رأس القائمة يظل مكان الوالدين ثابتًا معطرًا بأزكى العطور وأغلى الذكريات، لا ينسى أحدنا حكاية خيالية أو حقيقية حكتها له أمه قبيل النوم، فسكنت في الوجدان، وطبعت في القلب درسًا خالداً، وما أكثر ما قال الأب قولاً، ربما كان عتابًا أو نصيحة، تحولت في نفس الابن أو البنت إلى حكمة ونبراس لحياته، وللمعلمين نصيبهم من الإلهام لطلابهم، وكم انتفعنا بنصيحة معلمٍ مخلص وتوجيه أستاذ محب، وصارت أقوالهم مصابيح تنير دروبنا، وبوصلة ترشد خطواتِنا، فلوالدينا ومعلمينا جزيل الشكر وصادق الدعاء.
في أحلك الأزمات تطل وجوهٌ غالية، لتفتح لنا نافذة الإلهام على أجمل المناظر، وتمدنا بالعزم والقوة، وقصة الفارس والشاعر «عنترة بن شداد العبسي» في إحدى المعارك مشهورة ومخلدة في معلقته، إذ تراءى له وجه محبوبته «عبلة» في لمعان السيوف أثناء اشتداد القتال، وفي ذلك يقول:
ولقد ذكَرْتُكِ والرماحُ نواهلٌ
منّي وبِيضُ الهندِ تَقْطُرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها
لمعَتْ كبارقِ ثغرِكِ المتبسِّمِ
بل إن نظرةً أو كلمةً عابرةً من شخصٍ غريب أو عابر سبيل يمكن أن تفيدنا وتلهمنا وتغيّر بنا ما لا تغيّره السنوات.
يا رفيق الحرف، كل وجه تحبه وتختار صُحبته؛ سيظهر لك ذات يوم ملهمًا فيما تفعل وتقول وتبدع، وحُسن اختيارك لتلك الوجوه سيثمر جَمالاً وعذوبةً على أشجار عطائك، فالعلاقة وثيقة والصلة وطيدة بين ما ننجزه وبين العوامل المؤثرة على ذلك الإنجاز، إنها علاقة قوية تشبه ما يربط الوردة بالماء وبأشعة الشمس، والتربة التي تضرب الوردة جذورها عميقًا في جوفها، وما أحرانا ونحن ننقل خطواتنا في بستان بهيج من الورود، ويسرّنا منظر الورد وعبيره، أن ندرك أثر البيئة على الوردة التي تحتضنها، تمامًا كما تؤثر بنا وجوه الإلهام.