انسحاب تكتيكي

يوسف بخيت

 

حين نقرأ في سِير الناجحين، نظن أنهم انتصروا في كل المواقف، أو كما يقال: حققوا نصرا كاسحاً في كل مواجهة، مع أن الأمر ليس على هذا الحال دائماً؛ فلكل مواجهة ومعركة ظروفها ومعطياتها، قد تكون إحدى المعارك مضمونةَ النصر، وثانيةٌ متكافئةَ الطرفين، وثالثةٌ محسومةَ النتيجة لصالح الطرف المقابل، ومن الخطأ الإفراط في توقع النتائج الإيجابية دون إعداد عوامل النجاح وأسبابه، ومن المنطق أن يضع المرءُ خيارَ الانسحاب التكتيكي ضمن خياراته، وقد قالت العرب: رضي فلان من الغنيمة بالإياب؛ أي أنه حقق مكسب العودة سالماً.
في مجال التخطيط الإستراتيجي، يحرص واضعو الخطة على وضع احتمال الخسارة كأول احتمال، وهذا لا علاقةَ له بالتفاؤل والتشاؤم؛ بل له صلة وثيقة بالاستعداد المبكر للخسارة وتحمّل تبعاتها، وإيجاد البدائل المناسبة في المرحلة التالية للخسارة؛ فكلنا نعرف كيف نحتفل بالانتصار، وقد سمعتُ وشاهدتُ بأحد اللقاءات التليفزيونية سؤالاً تم توجيهه لمختصة بمجال الاقتصاد، كان نَص السؤال: ما أفضل المجالات لاستثمار مبلغ مالي؟ فكان ردّ المختصة عميقاً ومُهما حين قالت: وما مدى استعداد المستثمر لخسارة هذا المبلَغ المالي؟
وذلك بالضبط ما نَصِفه بالاستعداد لعواقب الأمور قبل وقوعها، ومدى وجود فرص أخرى للنجاة والنهوض من جديد.
يكاد ألا يوجد أحد من الناس لم يقع في ورطة من نوع ما، سواء منها المواقف الاجتماعية المحرجة، أو الخسارة المالية، أو النتائج الفادحة لقرار خاطئ، وهنا يأتي دور العقل المتزن والحكمة في التصرف؛ فيقول العاقل: يكفي ما وقع من التفريط والهدر، ويجب أن تتوقف الأمور عند هذا الحد، ويتجه حالاً إلى اختيار الانسحاب التكتيكي لوقف نزيف خسارته وتضميد جِراح مشاكله، أما المتهور فيستمر في سيل خسائره، ويكدّس المشاكل فوق بعضها؛ ليُصَعّب تالياً حلها؛ فكان عاجزاً باختياره، وأتبع نفسه هواها، ومضى في طريق الهاوية بدون كوابح.
يا رفيقَ الحرف، الانسحاب التكيكي ليس ضرباً من الجبن أو الفشل؛ بل هو الشجاعة بعينها والنجاح بذاته حين تصل الأمور إلى طريق مسدود؛ حتى أن صاحب البصيرة والتوفيق يرى أن الطريقَ مسدود بالفعل منذ بداياته؛ لأسباب تبدو جليةً في نظره؛ فيختار الرجوعَ والمراجعة، ولا يندفع نحو المزيد من الحماقة والتهور، ذلك أن لنا كبشر حدوداً معلومة من حيث الاحتمال الجسدي والنفسي والمالي والزمني، وإذا ما تجاوزنا تلك الحدود الواضحة، وقع الانهيار الكبير والخسارة المدوية، ووقوف المرء عند حدود معرفته وطاقته هو أبلغ الحكمة وأعلى درجات الشجاعة.