حشرجة خلف الشاشة

نجاة غفران

لنر... من ستحظى بشرف لفت انتباهي اليوم...؟ أفلتت ضحكتي وأنا أبلع قطعة الخبز المحمص، وأناملي تتزحلق فوق شاشة هاتفي الذكي. إنها الكلمة المناسبة. «شرف»... يا للنكتة...

رميت رأسي للوراء وغرغرت عيناي وأنا أضحك بهستيريا...

وأختنق...

اللقمة اللعينة... حاولت ان أرفع يدي الى أعلى رقبتي... حاولت أن أرجع برأسي للأمام... قطعة الخبز سدت حلقي ولم أفلح سوى في إخراج حشرجة خفيضة وأنا أنازع قدري...

لا يمكن... لا يمكن أن يحدث هذا لي...

الركن المنزوي الذي تعودت على الهروب إليه لتناول وجباتي بسلام يفصلني تماماً عما يحدث في المطعم حولي.

أنفاسي تتقطع وأنا أصارع... لأبلع قطعة الخبز اللعينة... ولا أفلح.

يقولون بأن المرء يرى مشاهد حياته تتوالى بين عينيه كفيلم سينمائي وهو يموت. وأنا أراها الآن... والظلام يلفني شيئاً فشيئاً.

لم أتعرف إلى أمي. توفيت وهي تنجبني...

 لكنني عرفته... وصرت ما أصبحت عليه الآن... بفضله.

والدي. سائق عربات النقل التجاري الثقيلة. عملاق بحلق وأوشام، وغلظة طبع مقيتة. تزوج والدتي رغماً عنه. هذا ما لم ينفك يردده علي. تزوجها إرضاء لوالديه... وخلصه القدر منها... وتركني حملاً ثقيلاً عليه.

لم يكن لحريته ثمن. لم يتزوج بعدها. واصل حياته العابثة وتركني مرمياً في منازل أقاربه. يسأم مني الواحد ليرميني للآخر... وحضرته يتذكر وجودي عندما يكثر التأفف مني، ويأتي ليرمي لهذا وذاك حزمة نقود يسترضيهم بها ليتحملوني مزيداً من الوقت... ثم يغادر.

«لا رجاء فيك...» كان يردد لي وهو ينظر شزرا لجسدي النحيف « تشبه أمك... كومة عظام... لن تفلح أبداً..»

بلى يا والدي. أفلحت. ونجحت في دراستي. وصار لا يشق لي غبار في التعامل مع التكنولوجيا وبرمجة الحواسب، وقرصنة أكثر الشبكات حماية، وأعصاها على مهندسي الكومبيوترات. وبدأت ملحمتي....

أسطو على البنوك وأجمع المعلومات وأبتز الرؤوس الكبيرة في البلد.

ثم اكتشفت سر الوالد العملاق.

حبيبة في كل مدينة. عشرات القصص التي تعري أسرار مراهقته المتأخرة.

أخذت أضربه بها، وأكشف المستور، وأدفع الخلق في كل مكان لمطاردته، والمطالبة برأسه.

انتهى به الأمر وحيداً، مريضاً، مهملاً. فقد عمله، وتنكرت له عائلته، وحولته جلطات دماغ متتالية إلى كومة لحم مرمية على كرسي متحرك. وتبادلنا الأدوار.

صرت أنا من يدفع للأقارب ليرعوه، ويناولوه أدويته. صرت أنا الغائب الحاضر. أنا... من جهز جنازته وتلقى العزاء في شخص مات بالنسبة لي من زمان.

استحليت اللعبة، وواصلت فضح كل اللاتي استحقرنني ورفضن التجاوب مع محاولاتي للتقرب منهن. زميلاتي في الجامعة، رفيقات عملي في مديرية التحليل المعلوماتي، الحبيبات اللاتي تعرفت اليهن في فترات مختلفة من حياتي ولم أنجح في لفت انتباههن ولا في الفوز بقلوبهن... عشرات الجميلات اللاتي أغضبنني لسبب أو لآخر. تتبعتهن على مواقع التواصل الاجتماعي، ترصدت خطواتهن في النت، ودلفت الى ملفاتهم الخاصة، وفضحت المستور..

وليس ثمة شخص في هذا العالم لا يخفي مستوراً...

صارت هذه تسليتي الأثيرة.

نشوتي المتزايدة دفعتني لتعقب المشاهير أيضاً. فنانة راقت لي، عارضة أزياء خطف جمالها لبي، شخصية معروفة لفتت انتباهي... جولة سريعة في كواليس مواقع التواصل... بضع نقلات في بيادق النت الخفي... وأعري المخفي... وأستعد للفرجة.

آخر الأنفاس...

الظلام يلفني وأنا ألفظها.

 وحيداً... بئيساً... حقيراً...  ونكرة.