جذع وردة

سعاد ميلي

 

الحاجة التي تجعلنا نكتب، هي نفسها الحاجة التي تجعلنا نبكي، وما بين الكتابة والبكاء، ابتسامة أمل وصفاء داخلي نتمسك به كمبدعين ليكون ضوء عتمتنا المتحركة.

الصراحة، لا أحد يستطيع أن يفهم ما بداخلك سيدي المبدع سوى ما تكتبه أنت، لأن الرّوح الفيـّاضة و الذات الإنسانية المبدعة من عمق تجربتها المؤلمة في الحياة، و من خلال مواقف مثيرة تختزنها في ذاكرتها بصمت، تستخلص العبر و تترجمها لنا إبداعا يعبـّر عن مكنونها الداخلي الدفين، ذلك لأننا من نملك سرّ التغيير عبر إرادتنا وقوتنا الداخلية، و لن نسعد حقا إلا إذا امتلكنا مفاتيح روح الإبداع.

بالنسبة لي الإبداع حياتي، هو الهواء الذي أستنشقه، الماء الذي أرتشفه حد العمق، إنه ببساطة طعامي اليومي، وبدون أي من الثلاثة، لا أحيى، ( أعني الشعر، التشكيل، القصة..) .

هناك أكيد مواقف قد تقف يوما ما حجر عثرة أمام طريقك المستقيم، ولكن سيدي المبدع عليك أن تدرك معي أن كثرة النباح عليك تعني أنك في طريقك الصحيح نحو القمة، عندها ستصل للهدف الذي تبتغيه إبداعيا لا محالة، بصبر وشجاعة وقوة داخلية. و بالنسبة لي أقف جبلا شامخا أمام عواصف الحياة، أقاسم الصبر أوجاعه بابتسامة دمعة.. ، هذه القوة الدفينة داخلي بزغت شوكتها عبر عدة صدمات تعرضت لها في حياتي، صحيح كانت مؤلمة جدا، لكنها مع ذلك أفادتني كي أنضج قبل الأوان وأنظر للحياة والوجود بشكل مغاير عن ذي قبل.

 في يوم أذكر أحداثه كما لو حدثت اللحظة، كنت مشاركة في أمسية إبداعية، وألقيت بها إحدى إبداعاتي بكل ما أوتيت من صدق وعفوية، وفي كواليس الأمسية اتجه نحوي أحد المبدعين المشاركين ببـطء، وعيناه تنفثان شررا، خاصة بعد ما سمع امرأة تقول لي بتلقائية:

 -  " والله يا بنتي عجبتيني، قريتي زوين أكثر من الآخرين، تبارك الله عليك"

كانت هناك طاولة إلى جانبي وعليها باقة ورد، أخذ وردة منها وأمسكها بيديه ينظر إليها ثم إلي، وبعدها قطع رأس الوردة، و أهداني الساق وهو يبتسم بسخرية قائلا:

-       هديتي لك التي تشبهك.

ابتسمت وأجبته (و نيران الألم تشتعل داخلي):

-      شكرا لهديتك سيدي، فعلا الوردة الكاملة مسيرها الذبول والموت، وأما الجذر سيبقى خالدا إلى ما لا نهاية.

وهكذا، موقف مثل هذا  كان سيكون سببا في صدمتي وابتعادي عن ساحة الإبداع بشكل نهائي خاصة بالنسبة للفتاة التي كـُنتها، تنظر بشكل حالم لزملائها المبدعين ولساحة الإبداع عموما، ولكن جوابي الصبور على من حاول التقليل مني كان سببا في أن يحترمني بقية المشاركين المبدعين ( الذين لم يقدروني حق قدري في البداية لصغر سني آنذاك) و من أهداني تلك الهدية المسمومة نفسه، إذ بدل أن يصدمني، صـُدِم هو، و كان بالنسبة لي هذا الموقف دافعا قويا كي أثبت له ولغيره أن السن الصغير ليس بالضرورة يعني أن مبدعه قليل التجربة، بالعكس، فهناك أسماء في تاريخ الفن والإبداع، ماتوا صغارا لكنهم ظلوا أسطورة خالدة، وما لا يعلمه صاحب الوردة،  أنني ومنذ كنت طفلة في السادسة من عمري، عرفت الوجه القاسي للحياة، خاصة عند مرض والدتي ووفاتها بعد ذلك، إذ جعلني مرضها أستغني عن طفولتي وأرعاها في سني الصغير ذاك، ولحظتها ابتدأتُ كتابة أول قصيدة وأول شخبطة تشكيلية وأول قصة في حياتي الحقيقية.