في ذكراه الـ 43.. عبد الحليم حافظ.. يُتم وحزن وضحك وحب

في ذكراه الـ 43.. عبد الحليم حافظ.. يُتم وحزن وضحك وحب
حليم
حليم مع ابن شقيقه محمد شبانه
حليم
حليم مع ابن شقيقه محمد شبانه
عبد الحليم مع الجمهور من إحدى حفلاته
صورة نادرة لعبد الحليم حافظ
حليم مع ابن شقيقه محمد شبانه
فريد الأطرش كان من أقرب أصدقاء حليم في الوسط الفني
عبد الحليم حافظ
العندليب على فراش المرض
صورة نادرة لعبد الحليم (على اليمين) وهو طفل
عرف العندليب مرارة الفقد منذ صباه
عبد الحليم جمعته بسعاد حسني علاقة حب وصداقة من نوع خاص
عبد الحليم جمعته بسعاد حسني علاقة حب وصداقة من نوع خاص
فريد الأطرش كان من أقرب أصدقاء حليم في الوسط الفني
16 صور


«في يوم، في شهر، في سنة، تهدى الجراح وتنام، وعمر جرحي أنا، أطول من الأيام»، لم تكن تلك الكلمات التي كتبها مرسي جميل عزيز ولحنها كمال الطويل وتغنى بها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ عام 1959، مجرد كلمات عادية، وإنما كانت تأريخًا وتجسيدًا لـ 47 عامًا من الحزن والشجن والمعاناة، عاشها هذا الفتى الأسمر النحيل، ليشكل من معاناته وصوته وجدان الملايين الذين ما زالوا يتغنون بأغنياته بعد ما يقرب من نصف قرن من رحيله في 30 مارس\آذار من عام 1977.
 

العندليب والحزن

 

«موعود معايَ بالعذاب موعود يا قلبي .. موعود ودايمًا بالجراح موعود يا قلبي»


هو عبد الحليم علي شبانه، ذاك الطفل الذي ولد في قرية الحلوات بمحافظة الشرقية شمالي مصر، وهو الابن الأصغر بين أربعة إخوة هم إسماعيل ومحمد وعلية. توفيت والدته بعد ولادته بأيام وقبل أن يتم عبد الحليم عامه الأول توفي والده ليعيش اليتم من جهة الأب كما عاشه من جهة الأم من قبل؛ ليعيش بعدها في بيت خاله الحاج متولي عماشة. كان يلعب مع أولاد عمه في ترعة القرية، ومنها انتقل إليه مرض البلهارسيا الذي دمر حياته، فيما بعد.

«وابتدى ابتدى ابتدى المشـوار وآه يا خوفي من آخر المشـوار آه يا خوفي»


هو ذاك الفتى الذي التحق بمعهد الموسيقى العربية قسم التلحين عام 1943 ، ثم تقابل مع صديق ورفيق العمر الأستاذ مجدي العمروسي في 1951 في منزل مدير الإذاعة المصرية في ذلك الوقت الإذاعي فهمي عمر، واكتشف العندليب الأسمر عبد الحليم شبانة الإذاعي الكبير حافظ عبد الوهاب الذي سمح له باستخدام اسمه "حافظ" بدلًا من شبانة.

«مقدورك أن تمضي أبدًا في بحر الحب بغير قلوع ..وتكون حياتك طول العمر كتاب دموع»


هو ذاك الشاب الذي تفاقم مرض البلهارسيا لديه بدءًا من عام 1956، فأخذت نبرة التفاؤل تختفي من أغانيه تدريجيًا، و تحل محلها نبرة الحزن والشجن، التي جعلته يتقاسم معاناته مع ملايين المحبين الذين حملوا بداخلهم معاناة حليم وأشجانه على مر السنين.

العندليب والحب

 

 

«الرفاق حائرون .. يفكرون. . يتساءلون في جنون .. حبيبتي أنا .. من تكون؟»


من هي حبيبة عبد الحليم حافظ؟، من هي الفتاة التي أحبها الرجل الذي أحبته ملايين النساء؟ وألقت الفتيات بأنفسهن من الشرفات عند وفاته؟

البعض يتحدث عن زواج سري وقع بين العندليب والسندريلا سعاد حسني وما هو ما نفاه حليم في مذكراته التي نشرها صديقاه لويس جريس، ومنير عامر بعد وفاته، ويروي العندليب فيها عن سعاد أنه حدث ذات مرة، وفي الصباح، امتدت يد حليم إلى الجرائد كعادته، ليجد صورة فتاة جميلة اسمها سعاد حسني، عملت في السينما في فيلم واحد اسمه «حسن ونعيمة»، وعندما حاول أن يعرف عنها أكثر أخبره صديقه بأنها أخت نجاة الصغيرة، فسأل: «لماذا لا تعمل في السينما؟»، ورد الصديق بسيل من الاتهامات: «إنها تحتاج إلى إعادة تصوير المشهد أكثر من مرة، إنها لا تجيد الوقوف أمام الكاميرا، إنها.. إنها».

أحس العندليب بأن هذا كله مجرد حواجز لابد من إزالتها، ينحصر أغلبها في كسل المخرج، وعدم صبر المنتج أحيانًا، وأن سعاد موهوبة وذكية وتستحق الدعم، بعيدًا عن المنتجين الذين لا يهمهم إلا الربح المالي -على حد تعبيره-.

دخل حليم مجال الإنتاج السينمائي، وأخذ على نفسه عهدًا بألا يكون مثل هؤلاء، مؤكدًا أنه دخله لا رغبة في مزيد من النقود، فالغناء وحده يكفيه، لكنه كان يريد التحرر من سجن عمليات الحساب هذه، لذلك أسس شركة «صوت الفن»، وقرر إنتاج أول فيلم «البنات والصيف»، ورشح المخرج الممثلة الشابة زيزي البدراوي للبطولة، وكان الدور الثاني هو الذي رشح فيه سعاد حسني.

بدأ التصوير، زيزي البدراوي تمثل بسهولة، ويصفقون لها، وسعاد حسني يعيدون لها المشهد أكثر من مرة، بالإجبار، لدرجة أن حليم استشعر الغيظ وبدأ يصفق لها عندما تمثل، ومن يومها ولدت صداقة جمعت بينهما، إلا أن الجميع استغل كلمة صداقة وأعلنوا ملكيته لها، بينما حليم لا يرى الصداقة بهذا المنظار، وكذلك سعاد ابنة الظروف القاسية التي جعلتها تشعر بالوحدة، وتسعى لإنقاذ نفسها منها.

كانت صداقة حليم بسعاد منبعها ثقته الكبيرة في موهبتها، وأنها ذات ذكاء فطري مطلوب فقط صيانته من كل ما يحيط به، كذلك وعيه الكامل بحال الشخص الذي يعاني من عدم وجود استقرار في بيت واحد، ويعرف معنى التشتت في الطفولة، فالأب طلق الأم، والأم لها زوج قاس، والأب له أبناء صغار، الكل يبحث لنفسه عن نجاة، بينما سعاد طيبة وتتعرض للاستغلال، مع ذلك ابتسامتها تضيء وجهها وعيونها تبرق بالأمل وتمثل بانطلاق، «موهبة حقيقية» على حد وصف حليم.

وكان حليم يزورها أحيانًا في منتصف الليل، الرابعة صباحًا؛ لأن هناك مشكلة تريد أن تناقشها، وكان يزعجها دائمًا الشرور التي يطلقها الآخرون حولها في شكل شائعات، ومحاولة لقتلها فنيًا.

فجأة، وفي أحد أيام شهر أغسطس عام 1965، سافرت أختها صباح إلى الإسكندرية، ووقع لها حادث في الطريق، فماتت، بكت سعاد، وأصبحت تكره الموت وتخاف من المنزل، وبدأت تتجه لتنام مع بنات أسرة حليم، لتزداد الشائعات أكثر بوجود قصة حب بينهما.

يقول حليم: «لحظات فكرت فعلًا في سعاد حسني، كزوجة، أنا أحتاج إلى إنسانة كسعاد»، لكنه لم يستطع أن يصدر قرارًا لقلبه بتحويل صداقته معها إلى قصة حب، وعلى الجانب الآخر قررت سعاد أن تبتعد تدريجيًا، وتقلل من اتصالاتها به، حتى أن حليم أحس بأنها تتمرد على صداقتهما.

مرت 8 سنوات لم ير فيها سعاد حسني، ثم حدث ورآها أثناء تسجيل إحدى أغنيات وردة، لكنه أحس بأنها تغيرت، بدأ يشوبها بعض التكلف، شيء من عدم البساطة، ليختتم الفصل الذي أسماه «نعم أحببت سعاد حسني ولكن...» قائلًا: «حزنت، وتمنيت ألا يكون لقاؤنا في ذلك اليوم قد تم».
 

العندليب و الكوميديا


 

«عيش أيامك.. عيش على طول.. خلي شبابك عمره يطول.. افرح ارقص ..غَنِّي .. قد ما تقدر عيش»


على الرغم من كل المعاناة التي عاش فيها حليم، إلا أن حس الدعابة والمرح لم يغيبا عنه أبداً.

فقد اعتاد على مداعبة جمهوره خاصة في حفلاته الخارجية بأساليب متنوعة، منها عندما خلع قطعاً من ملابسه وألقاها للجماهير، كما ألقى الورود عليهم وعلى أعضاء فرقته الموسيقية في حفل أحياه في لبنان.

كما دخل عبد الحليم حافظ في نوبة ضحك هستيرية، في إحدى حلقات برنامج «اللقاء المفتوح» عام 1965, والذي حل فيه ضيفاً للرد على أسئلة معجبيه.

فعندما نادت المذيعة على معجبة اسمها "عصمت سليمان"، وطلبت منها الوقوف لتوجيه سؤالها لحليم، كانت المفاجأة أنها كانت رجلاً!

وبعد أن اكتشف عبد الحليم حافظ أن اسم "عصمت" لمعجب وليس معجبة كما هو رائج، دخل في نوبة من الضحك، وتأسفت المذيعة عن خطئها غير المقصود.




كذلك روى الكاتب الصحافي إبراهيم عيسى، موقفاً جمع بين حليم والفنان فريد الأطرش خلال مباراة لكرة القدم بين النادي الأهلي ونادي الزمالك في مصر عام 1959.

وقال "عيسى"، إن عبد الحليم حافظ كان "أهلاوي" وفريد الأطرش "زملكاوي"، وكان الإثنين متشاحنين، ولم يكلم أحدهما الآخر.

وأضاف أن عبدالحليم أراد أن تعود العلاقة مرة أخرى مع "الأطرش"، واستغل فوز النادي الأهلي على الزمالك، وأرسل برقية كتب فيها: "مبروك للأهلي وحظ أوفر للزمالك، وعقبال كل مرة لما نقول مبروك للأهلي وحظ أوفر للزمالك، -في إشارة لرغبته في أن يفوز الأهلي ويخسر الزمالك في كل مرة - فما كان من فريد عندما قرأ البرقية إلا أن ضحك وتصالح مع حليم.

العندليب والموت


 

«وسترجع يومًا يا ولدي مهزومًا مكسور الوجدان.. وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان».


بين أم ماتت وهي تلده، وأب فارق الحياة وهو مازال رضيعًا، ذاق حليم مرارة الموت منذ الصغر، وعاش مريضًا يطارده شبح الموت أينما حل ويرافقه أينما ذهب.

الساعات الأخيرة في حياة العندليب


يوم الأربعاء 30 مارس\آذار 1977 وتحديدًا في مستشفى كينجر كولدج بالعاصمة الإنجليزية لندن، سكت الصوت الذي أطرب الملايين لعقود طويلة، وتوقف القلب الذي لطالما خفق بالحب، وارتاح الجسد النحيل أخيرًا من آلامه.

ففي جريدة الأخبار المصرية يوم الجمعة 1 أبريل\نيسان 1977 كتب عنوان الساعات الأخيرة لعبدالحليم حافظ علي فراش الموت، ونشرت صورة للعندليب وهو يغني "قارئة الفنجان"، ويحاول أن يدفع الموت بعيدًا، وكان هذا تعليق الصورة المنشور تحت العنوان في هذا اليوم قرر الأطباء المعالجون إجراء عملية الحقن السنوي لدوالي المريء رغم سوء حالة العندليب الصحية، ورفضه بشكل قاطع إجراء عملية زرع كبد بعد أن أكد له الأطباء أن حالة الكبد سيئة جدًا والعملية خطيرة للغاية واحتمال إصابته بالنزيف بعد العملية كبير، وفي اليوم نفسه سافر صديقه مجدي العمروسي إلى باريس لشراء دواء حديث يمنع النزيف.


الحالة الصحية للعندليب لم تكن تسمح أبدًا بإجراء العملية، ولكن العملية كانت الحل الوحيد للحفاظ على حياته وأجريت العملية في منتصف اليوم، ولكن بعد وقت قليل من انتهاء العملية وبالتحديد في الثامنة مساءً فوجئ الأطباء بأن النزيف جاء بشكل حاد وغير متوقع واندفعت شلالات الدماء من جوانب متفرقة من جسده النحيل وفشل الأطباء على مدى ساعتين في السيطرة على هذا النزيف غير المتوقع بهذا الكم حاول الأطباء المستحيل؛ حتى بتقليل النزيف من دون جدوى لدرجة أن السرير وأرضية الغرفة امتلأت بالدماء حتى لفظ العندليب أنفاسه الأخيرة في العاشرة مساء الأربعاء 30 مارس 1977، والغريب أن مجدي العمروسي وصل المستشفى ومعه الدواء الواقي من النزيف بعد دقائق من وفاة العندليب.
وكان يرافق عبد الحليم في رحلته الأخيرة شقيقته علية وشقيقه محمد شبانة وشحاتة وفردوس أبناء خالته.
الإذاعة المصرية أعلنت نبأ وفاة العندليب في السادسة والنصف صباحًا على إذاعة البرنامج العام، ووصل جثمان العندليب إلى مطار القاهرة في الواحدة صباح السبت 2 إبريل\نيسان 1977، وأمر الشيخ محمد متولي الشعراوي وزير الأوقاف بأن يبيت جثمان العندليب في مسجد عمر مكرم وفتح المسجد طوال الليل تمهيدًا لتشييع الجنازة بعد صلاة الظهر.
وتقدم الجنازة المستشار عز الدين جلال نائبًا عن الرئيس السادات الذي كان موجودًا في الولايات المتحدة في ذلك الوقت وممدوح سالم رئيس الوزراء وعدد من الوزراء وكبار رجال الدولة والفنانين ونصف مليون مواطن من عشاق العندليب.

غاب العندليب، ولم تغب أغنياته ليوم واحد،
غاب العندليب، ولم يغب حبه يومًا عن قلوب محبيه،
لا لشيء، إلا لأنه جسد بفنه الصادق آمالهم وآلامهم،
فاستوطن قلوب الجميع،
ليعبر بصدق عن ما قاله الشاعر الكبير محمود درويش
«أثرُ الفراشةِ لا يُرَى، أثرُ الفراشةِ لا يزول».