حكايات السفر

مها الأحمد 
مها الأحمد
مها الأحمد

 

حينما نغادر المدينة التي اعتادت على أصباحنا المتكررة نُفاجأ بأنفسنا ووجوهنا وقد نُزعت عنها الملامح الجادة والمترقبة واستبدلت بأخرى مسترخية، منبسطة وأكثر إشعاعاً.

في السفر ننقلب على سلوك أصباحنا المتيقظة التي تندفع باللوم إن نحن تأخرنا في السهر

ولم نحترم صوت المنبه الكئيب عديم الرحمة.

في السفر نطرب لسماع صوت أصدقائنا بأحاديثهم ونقاشاتهم، تضخ قلوبنا معهم بالضحك، ولو كان هناك مقياس للابتسامة سنلحظ أنها زادت الضعف.

في المساء المتأخر نغامر مع مجموعة صغيرة منهم بحاسة التذوق، ونجعلها ترضخ لكل النكهات حتى المستبعدة وغير المفضلة منها.

في السفر تنشأ بيننا وبين الأماكن والأشياء علاقة عابرة، ولكنها خاصة، هي دوماً على استعداد تام لرحيلنا المباغت لذا فهي تضاعف في كل لقاء مشاعرها معنا وتختزنها بين زواياها لتكتمل الذكرى، وتظهر بالتفصيل عند تلويحنا الأخير.

في السفر تكسو معاملاتنا البساطة من كل جانب، فلا يقلقنا انتظار شيء، ولا نأخذ مواعيد جديدة سوى مع اللا شيء.

دوافعنا تتوقف عن الحركة بالاتجاه المعاكس للمقبول، وتتخلى العادات والتقاليد عن المشاحنات وحالة المد والجزر المستمرة، ونتعاقد بطواعية مع السلام اللا مشروط لفترة من الزمن قد تستمر حتى بعد عودتنا، وربما تلتصق بنا إلى مالانهاية.

في السفر لا يتعارض صوتنا الداخلي عما نعلن عنه ونتصرف به، فلا يوبخنا في كل مرة عن كذبة صغيرة طائشة، ولا عن أخرى كبيرة لا تليق بالصدق الذي تعاهدنا على ممارسته قدر المستطاع.

تأخذ أفكارنا المفرطة نفساً عميقاً تختنق به فلا يبقى منها سوى تلك الأفكار الخفيفة التي لا نخاف منها، ولا نهاب سيطرتها علينا، ولا نمل من الحديث معها ومعاكستها لنا طوال النهار.

في السفر لا نتذكر شكل وسائدنا، ولا حجمها، ولا حتى رائحتها، فلا نستطيع التمييز بسرعة إن استبدلت بأخرى، لأننا لم نتعرف إليها ولا نتحدث معها، فبمجرد أن نلقي عليها التحية وقبل أن نتمنى لأنفسنا ليلة هانئة نغوص بحلم عميق.

في السفر نصبح أكثر عرضة للتغير والانفتاح معترفين بالأخطاء التي نرتكبها من دون مبررات تسبقها.

يضاف إلى قهوتنا المفضلة رشة من التقبل؛ فنصبح أكثر تقبلاً لكل أشكال المنغصات التي يتسبب بها الوقت والمواعيد المتغيرة، كذلك اختلاف وجهات النظر حتى الحاد منها والمهاجم.

نتقبل الشمس وتغيبها المفاجئ، على الرغم من أننا سافرنا خصيصاً لأجلها، مزاج الأمواج السيء والمتقلب الذي بسببه بقيت أجسادنا جافة متعطشة للمياه المالحة، نتقبل حتى تلك الوعكة الصحية التي لم تكن في الحسبان وتسببت بانخفاض صوت الاستمتاع لأيام كثيرة.

الكثير من الأمور التي نتقبلها في السفر، وكأن البلاد التي نزورها تمنحنا بدل ختم الدخول "تميمة ضد الحزن".