ابتسامة من عالم ما

ريم نجمي 
ابتسامة من عالم ما
ابتسامة من عالم ما

على الهاتف النقال تحدثتُ كتابةً مع صديقة عن روايتي الجديدة، وسألتْ عن موعد صدورها، فقلت لها: على الأغلب سيتزامن صدورها مع معرض الشارقة الدولي في نهاية سبتمبر. كنت أكتب لها في استعجال وأنا مشتتة، أرتدي ثياب الخروج وأجهز حاجيات طفلي الصغير. غادرت البيت مسرعة أجر طفلي في العربة وأخذنا الميترو لحضور عيد ميلاد في الجهة الأخرى من برلين. في منتصف الطريق اكتشفت أن خط الميترو مقطوع ويجب أخذ حافلة بديلة، تذمرت من الأمر لكن لم يكن هناك بديل آخر. في الحافلة جلست مع طفلي في المكان المخصص لعربات الأطفال وهو المكان المقابل مباشرة للباب الرئيس لصعود الركاب. في المحطة التالية صعد عدد من الركاب يتهافتون على الكراسي الفارغة، ولم يتركوا فرصة لرجل ألماني عجوز بالكاد يستطيع أن يحرك رجليه في الاتجاه الصحيح. أمسك العجوز بعمود حديدي ليستند عليه من دون أن يطلب من أحد الركاب أن يتنازل له عن مقعده. كما لَم يبادر أحد الركاب الشباب إلى ترك مقعده للرجل، وهو سلوك برليني معتاد لا يفاجئ من سكن برلين لعشر سنوات مثلي، سلوك تكرر معي وأنا حامل في الأشهر الأخيرة، ما كان يدفعني للتساؤل بسخرية إن كانت بطني تشبه بطون الحوامل أم أنها تبدو كانتفاخ زاد على حده!؟

عدّلتُ وضعية عربة الأطفال بحيث فسحت للرجل العجوز مجالاً للجلوس بجانبي ودعوته إلى ذلك، فشكرني وجلس مبتسماً وهو يلاعب طفلي بإشارات من يديه، ثم أدخل يده في كيس من القماش واستخرج طوابع بريدية وُضعت بعناية في غلاف بلاستيكي وأصر أن يهديها لي.

 

-  الأمر لا يستدعي، شكراً.

-  لكن أريد أن أهديها لك.

-  لم أفعل شيئاً يستحق، من واجبي أن أترك لك المقعد.

-  خذيها من فضلك، إنها هدية جميلة، على الأقل بالنسبة إلى عجوز متقاعد يهوى جمع الطوابع.

 

أخذت منه الطوابع وبدت من الحروف أنها طوابع عربية، اعتقدت للوهلة الأولى أنها من المغرب؛ لأنها ذكرتني بنوعية الطوابع التي كنت أشاهدها في طفولتي لكن وباندهاش قرأت عليها: الشارقة.

كانت الطوابع تحمل صور أحصنة عربية أصيلة ومختومة بتاريخ 28 ديسمبر 1972، أي خلال الأشهر الأولى لتأسيس الإمارات. تأملت الطوابع مطولاً، واستغربت الموقف كثيراً، فقبل ساعة فقط كنت أتحدث مع صديقة عن الشارقة، وها هو رجل ألماني لا علاقة له بالعالم العربي، في وسط برلين، وفي حافلة ما كنت سأركبها، يهديني طوابع قادمة من الشارقة. التقطت الأمر كرسالة أو إشارة ما والتفت إليه لأسأله كيف حصل على هذه الطوابع؟ لكنه لم يكن بجانبي، كان الباب الأوتوماتيكي للحافلة قد أُغلق للتو، وبدا لي من ورائه وجهُ الرجل العجوز يُلوّح بيده مودعاً، مرسلاً لي ابتسامة من عالم ما.