أمّهات التوحّد 

سارّة خليفة

أعودُ إلى عُلبتي السّوداء دائماً بشجاعة النّاجية التّي صنعتْ الطَريق، ممتنة للرّحلة وللطريق.. كانتْ ولادتي الثانيّة مليئة بالمشاعر. لم أنمْ طيلة الليلة الأولى التّي رأيتُ فيها وجهه الصّغير. كنتُ أنحني كثيراً لأقبّله رغم الألم. 
لماذا إذن أخبروني بأنّ اللواتي لا يتحدّث أبناؤهنّ أمّهات باردات؟.. مزايدات كثيرة كنتُ أقعُ ضحيّتها وأنا بعزّ أزْمتي الكبيرة التّي أسمّيها اليوم امتحاني، وكنتُ أردّ وأتجاوز وأختنق وأسامح وأزداد حرصاً على علاج صغيري.
صار واضحاً أن رصيد صغيري اللغوي محدُود جداً مُقارنة بأقرانه، وصار انتظارُ مُعْجزة تحسّنه من دون علاج مُخاطرة كبيرة، وبأوّل موعد لي مع المختصة التي لجأت إليها طلبت مني أن أنادي والد طفلي وكان ذلك تصرفاً روتينيّاً.
ما لم يكن طبيعيّاً ما حدث بعدها: أخبرتْه المختصة بأنّها مهمة الأم وحدها وأن عليه فقط الحرص على إيصالي إلى الموعد! قاطعتُها: مُهمتنا معاً، أريدُه أن يشارك بتمرين الصّغير على الحديث؛ إنه ببساطة والده!.. لمْ تدعْني أكمل ُ جمْلتي: يا مدام هذه مهمتك لولا انشغالك بعملك أصلاً لما وصلت الأمور إلى هذا.
لم أعدْ مُجدّداً إلى المُختصة الذكوريّة التّي تعتقدُ أنّ تأثير الأمّ العاملة على صغيرها سيء. 
قرأت كثيراً عن تأخر اللغة وكانت معظم القراءات تنتهي إلى ضرورة مراقبة الأعراض التي قد تعني أن الصغير مصاب بطيف التوحد. بحثتُ عن أخصائيّة أخرى ووجدتُها على بعد سفر ساعة ونصف الساعة بالسيارة.
بدأت رحلتي مع القاعات الباردة والأمهات النزقات أو الحزينات وأحياناً الدّاعمات، مجتمع جديد جربت أن أنتمي إليه لكن تبادل المعلومات بقاعة الانتظار كان موجعاً لي، حين تصرّ بعض الأمهات على أنّ حالة صغيري ميؤوس.
ألج غرفة المختصة منهارة فتكرر نصيحتها لي: لا تدعيهن يخبرنك بما يجهلنه. 
بعد قرابة العام وبعد أن بلغ صغيري سناً يسمح للأطباء بتشخيص حالته بدأت مخاوفي تتعاظم، تتشابه الأعراض قليلاً؛ لأن المتوحد يعاني مثل صغيري من تأخر في اللغة، لكن صغيري كان طبيعياً جداً بتواصله معنا باللّعب وبناء علاقات مع أقرانه حتى من دون لغة.. تم تشخيص ريّان بالتوحّد من طرف "الأرطوفونية"، وهذا تجاوز وقعت فيه؛ لأنه ليس من صلاحياتها، لكن طبيبة الأعصاب الخاصة بالأطفال وبعد عدة جلسات تنبهت إلى شيء مهم. سألتني: أكان ينظر إليك؟ أجبتها: نعم كان ينظر إليّ دائماً.
أطفال التوحد لا ينظرون إلى محدثهم، فاقدون للاتصال البصري ويكتسبونه بصعوبة بالغة، وبعد تمرينات شاقة.
في كل زيارة لها كنتُ أبكي بمرارة، تمّ تشخيص حالة ريان بتأخر في اللغة، لم تجب الطبيبة عن كل تساؤلاتي، عن أسباب هذا التأخر ودعتني إلى ضرورة مواصلة الالتزام بمواعيد الأرطوفونية، ونبهتني إلى أن تأخر اللّغة قد يتسبب للطفل ببعض المشاكل الدراسية.
 بعض أمهات التوحد الشّجاعات حقّقن مع صغارهن نتائج هائلة مكنّتهم من الدّراسة، واكتساب المهارات التي توفر لهم بعض الاستقلالية، التوحّد لا يشفى تماماً لكنه يُهزم بالتأهيل، وكنت مستعدة له رغم كل شيء، أنتمي إليهنّ رغم أنّ تشخيص ابني أستبعدُ أن يكون طفل توحّد؛ وهو الآن يتحدث جيّداً جداً ويتعلم مثل أقرانه، لكن تشابه الرّحلة جعلني أمرّ بألمهن وتعبهنّ وصرتُ أكثر تقديراً لهن وللأمّهات كافّة.