مدينة النحاس

إنها مدينة عجيبة حقًا. مدينة من نحاس. أشجارها من نحاس. أطيارها من نحاس. أما أهلها.. أهلها الذين أنشأوها، وسكنوها، فأولئك قلوبهم من ورق الورد.. فكيف كان ذلك؟

 

يحكى أن رجلاً من ذوي الأملاك الواسعة التقى في منامه رجلاً صالحاً، لحيته البيضاء الناعمة تغطي قدميه الحافيتين. وعيناه تشتعل بهما شموس سوداء. قال له: - يا غلام..

 

- ما أنا بغلام. أنا رجل عظيم الشأن. أمتلك من البساتين ألف ألف، ومن العبيد ألف ألف، ولي من الجواري ما يفوق أصناف أيام سنيّ عمري. أنا..

 

- اسمعني يا غلام. أنت غلام لأني أنا أبلغ من العمر ألف عام. انظر إلى لحيتي.. إنها تتدلى حتى تغطي قدميّ..

 

- وماذا تريد أيها الرجل السحيق؟

 

- تأدب في الكلام. فأنت في عمر أحفاد أحفاد أحفادي.

 

- إني رجل أفنيت الدهر تجارب وخبرة. لا تعاملني كأني طفل من فضلك!

 

.............

 

ثم ماذا؟ تسألينني ولكِ الحق. تسألين عن علاقة هذا بمدينة النحاس؟

 

سأخبرك:

 

 بعد احتجاج الرجل الثري على معاملة طيف المنام له، اقترب الطيف منه وقال:

 

- أنا آمرك أن تبني مدينة من النحاس.

 

- ماذا؟ مدينة من ماذا؟ نحاس؟!

 

- قصورها نحاس. جحورها نحاس أكواخها وعشها نحاس..

 

- والناس؟! من نحاس أيضًا؟!

 

انقشع الطيف، ولم يجب عن السؤال الأخير. خاف الرجل أن يكون ذلك الطيف مباركًا فإن عصاه هلك، أو أن يكون تجسدًا لخبث الشيطان ومكائده، وفي هذه الحالة إن طاوعه ضاع.

 

ماذا يفعل؟ وما معنى كل هذا؟ أتكون أضغاث أحلام؟ ماذا يفعل؟ كيف يعرف إلى أيهما ينتمي هذا الحلم أو الرؤيا؟

 

ثم تذكر أن لهذا الأمر أهله، وأن خبيز العيش صنعة الفران لا يفتي فيه سواه. فقص رؤياه أو حلمه على شيخ المسجد الذي تعوَّد أن يصلي فيه.

 

نظر الشيخ إليه طويلاًً ثم قال:

 

- أنت تملك من المال ما يكفي

 

فصعق الرجل. لم يكن يتوقع أبدًا أن يقتنع الشيخ بحكاية النحاس هذه.

 

- أتقصد أنها رؤيا مباركة؟

 

- ابنِ المدينة. فإن كانت رؤيا مباركة فأنت كسبت، وإن كانت حيلة شيطانية فأنت لم تخسر.

 

أدار الرجل كلام الشيخ في رأسه، ثم قال لنفسه: إن كان بناء مدينة من النحاس عبثًا فهو ليس إثمًا.. لن أخسر شيئًا كما قال شيخي.

 

وبناها. أنفق كل ثروته على التنقيب عن النحاس الخام ومعالجته حتى يصير نقيًا، وعلى استقدام أعظم مهندسي البناء على وجه الأرض وأمهر النحاسين. حتى الطيور صيغت من نحاس أصفر لامع، تعمل آلياً فتحط على الاشجار وتغني بصوت من نحاس.

 

أما الناس فظلوا كما هم: قلوبًا تدق، وأقدامًا من لحم ودم يجرحها الشوك ويحفزها الطموح للسعي، وجسدًا كله كورق الوردة حساسًا قابلاً للتشوه والذبول والتغضن والفناء.

 

ولكن لماذا سكن الناس جنة معدنية. لقد سكنوها؛ لأن الرجل الثري أغراهم بالمال، فعاشوا في رخاء لا شغلة لهم إلا الضحك والغناء والطعام والشراب واللهو، ففنوا سريعًا، وظلت المدينة شاهدًا على حماقة الإنسان.