آجال

حدث الأمر في ثوان، حرك الصحن اللاقط جهة اليسار، وصاح مناديا زوجته في الأسفل، هل ما تزال الصورة مهتزة؟ لم يسمع جوابها، تحرك نحو الحافة القريبة وأطل عليها، وقبل أن يعي ما يحدث له، شعر بدوخة، وترنح وسقط من أعلى الدار.

سبعة أمتار كاملة

فتح عينيه، هدى تتحسس جسمه وتبكي وتولول، السماء بديعة الزرقة فوقه، الجو صاف، وعصافير صغيرة تحلق في البعيد.

لم يمت

حرك بحذر شديد أطرافه الأربعة، الحمد لله، لم يكسر له شيء، لا يشعر بالألم، رفع رأسه وهم بأن ينهض، وانتبهت زوجته أخيرا إلى أنه حي يرزق، وصرخت، وبكت أشد من الأول.

جلس، وتفقد جسمه، لم يصب بأذى، لا خدوش ولا جروح ولا كدمات، أعجوبة، ربت بامتنان على الفرشة التي وقع عليها، اشترى لهدى على مضض طقم الفرشتين والمساند التي ترافقهما، كان يريد تغيير جهاز التليفزيون، والصحن اللاقط، لكنها أصرت على فرش فناء الدار، ما فائدة ذلك، إن كان عليها إدخال الطقم كلما هب الغبار أو أمطرت السماء؟ بقيت «تنق» عليه حتى أتاها بما أرادت، وهو الآن غير نادم، بل على العكس، يشعر بالامتنان.

قام يتمشى بضع خطوات ويتحسس غير مصدق رأسه وأطرافه، الحمد لله.

مسحت دموعها، وقالت له وصدرها يعلو ويهبط إنها سترتدي جلبابها وترافقه إلى المستشفى، يجب أن يفحصه الطبيب.

لم ير حاجة لذلك، لكنه طاوعها، لم يعد يرغب في الشجار معها، لولا تمسكها بطقم الفرشتين لكان رأسه قد تهشم.

أقبلت تكفكف بقايا دموعها، مدت يدها إلى رأسه ولمست شعره ووجهه وكتفيه، وأجهشت من جديد، حضنها، ورمى نظره خلفها إلى الغرفة، حيث إبريق الشاي يبرد، والجلسة تنتظر، والمذيع يستطلع توقعات ضيوفه الرياضيين قبل بدء المباراة.

 الصورة واضحة، نجح إذن في التقاط المحطة التي يريدها، ولكن، بأي ثمن؟

انتزعت هدى نفسها من حضنه، وتنهدت بوجل، ومسحت وجهها ثانية، وأمسكت ذراعه برفق، طاوعها وترك المذيع يعلن عن قرب بدء المباراة، لم يعد ذلك يهمه.

ولد مرة ثانية، وهبت له الحياة، يرغب في أن يصرخ ويبكي ويضحك ويجري ويعانق بكل حواسه العالم الذي كان على وشك أن يتركه خلفه.

حملق الطبيب فيه غير مصدق حين سمع منه ما حدث له، فحصه بحرص شديد، وهنأه على سلامته، كتب لك عمر جديد، قال له، عليك أن تحمد الله على ذلك.

لا يفعل غير هذا منذ أن فتح عينيه.

استوقفه الطبيب قبل أن يغادر، لم يشرح له كيف وقع، ماذا حدث له حتى فقد توازنه.

صحيح، ماذا جرى؟ سأل نفسه، حاول أن يتذكر بدقة اللحظات التي سبقت سقطته، نادى زوجته، واقترب من الحافة، وشعر بدوخة مفاجئة، ووقع، هز الطبيب رأسه وسأله إن كان يخاف من الأماكن العالية، لا أبدا، رد بحزم، سبق له أن عمل في صباه في ورشات بناء، وكان يتسلق الأسطح، ويقف على حواف النوافذ، لا يخشى العلو، لكن أمرا ما حدث اليوم.

قالت زوجته إن عليهما أن يتصدقا، وينحرا خروفا، ويشكرا الله.

استنشق عبير أزهار الليمون المصفوفة على طول سور المستشفى، وغمرته سعادة عميقة، الحياة جميلة، طوق خصر زوجته ومضى بها بعيدا عن موقف الحافلة، سألته بقلق، ألن يعودا إلى دارهما؟ يجب أن يرتاح، ويتناول شيئا، وهناك الكثير الذي ينتظرها في المطبخ، لا. سيتمشيان قليلا، أجابها، منذ زمن لم يخرجا معا في نزهة، يريد أن يرى الدنيا، ويبتسم للناس، ويستنشق الهواء، ويسمع حركة العالم، يريد أن يشعر حقا بأنه يعيش، وأنه لم يمت.

رفعت رأسها وقد ازداد قلقها، وابتسم لها.

كم أنت جميلة! همس وهو يتنهد، وشعرت بقلبها يعتصر، لم يقل لها كلاما كهذا منذ زمن، يتصرف على غير عادته، ويخيفها، يخيفها، حاولت أن تبتسم، ولم تفلح سوى في البكاء بصمت، كحمقاء.

أمسك بذقنها وقال لها إنه سيأخذها إلى مكان جميل جدا، وانحنى يقبل عينيها الدامعتين، ويجرها بمرح طفولي إلى الطرف الآخر من الشارع.

حدث الأمر في ثوان

ارتفعت أبواق السيارات، وعلا ضجيج المارة، وتحلق خلق كثير حول الجسدين الغارقين في دمائهما، أقبل سائق السيارة التي دهستهما يصيح ويقسم الأيمان المغلظة، جريا وسط الطريق كالمجانين ولم يمنحاه فرصة ليفعل شيئا.

لم تكن ثمة فائدة من نقلهما إلى المستشفى القريب، حظهما تعس، علق الناس، ولم ينتبه أحد إلى الابتسامة المرسومة فوق شفاه الزوجين القتيلين