حضور الغياب

محمد فهد الحارثي

نفتقدهم في كل لحظة، نشعر بوجودهم معنا وإن غابوا. نعيد تأملهم ندرسهم من جديد ونستعيد كلماتهم وتعليقاتهم. نشعر للحظة أن إدراكنا ربما كان محدوداً، وأن الكلمات تعني فضاء آخر وعالماً مختلفاً. نكتشف أن كلماتهم كانت أجمل مما كنا نتخيل، وتعليقاتهم كانت أذكى مما كنا نتصور. مشكلة الأشياء الجميلة أن إداركها يأتي بعد غيابها. هؤلاء الأشخاص، الذين يتركون بصماتهم في كل مكان، يتعبوننا، لأنهم يتفننون في الوجود في كل الأمكنة، يمتزجون مع الزمن، فنرتبط معهم في كل اللحظات. يصبحون معنا، فلا نميّز إدراك اللحظة الفاصلة بين وجودهم وتذكرهم. بين ما نعتقد... وبين ما نرى. الأنقياء في غيابهم تكبر مساحاتهم مع الوقت، ويصبح الابتعاد أصعب. يحرجون الآخرين في مقارنات غير عادلة. هم هكذا بهدوئهم وطيبتهم وابتسامتهم، يثيرون جدلاً وضجيجاً في غيابهم لأن المساحات أكبر من أن تملأ. والفراغات صارخة ولا يمكن تجاهلها. ما أجملهم حتى في غيابهم. يرتقون بالأمكنة فتصبح أجمل، يسمّون بالأشخاص فيكونون أفضل..هم كذلك، دائماً استثناء في عالم التكرار، الواحد في عالم الكسور. لماذا نكتشف أننا معهم أكثر في غيابهم. وأن معادنهم الأصيلة، هي التي تجمع المحبين حولهم. الأشخاص الذين يتجاوزون المساحات الضيقة والمنافسات السخيفة، ويصعدون إلى مرحلة أعلى. هم الأشخاص الذين يتركون بصمتهم في قلوب الآخرين، ويجعلون لهم لمسة مختلفة. الغريب أننا في حضورهم نتعامل معهم على أنهم حقيقة واقعة وأمر مضمون. ولكن حينما نفتقدهم ندرك أن كل لحظة كانت لها قيمة ومعنى، وأن الزمن ليس بدقائقه وساعاته؛ ولكن بالأشخاص الذين يشاركوننا حياتنا، ويضيفون لها أبعادها ووهجها المضيء. لم يغادروا، بل هم معنا دائماً في كل ثنايا الزمن. وكوننا نتذكرهم فهذا سبب كاف لكي نكون سعداء... لأنهم حتى في تفاصيل ذكرياتهم يصنعون الفرح والسعادة للآخرين.
اليوم الثامن: 
لم يغادروا، بل ربما نحن الذين رحلنا إليهم...