رسالة إلى عالم آخر

سهام أشطو

 

لكل شيء نهاية، و أسوأ ما قد يحدث في حياة المرء نهاية مساره مع حبيب. الخصام والبعد والمشاكل وهموم الدنيا ...كلها تجد طريقا للحل، لكن أمام الموت لا نملك سوى دموعنا التي كلما انهمرت تزيد من حرقة الفراق وتغذي ذكريات الماضي القريب مع الأحبة.

اليوم سأحكي القليل من تجربتي مع الموت، هذا الحدث الذي يعجز الإنسان عن استيعابه ولو  أن الحياة تفعل ما في وسعها لتنسينا مآسيه ومخلفاته الموجعة. فقدت بعض الأشخاص الذين أحببتهم وأثروا بشكل أو بآخر في حياتي، لكن فقدان قريبي الصغير "حميد" يبقى الأقسى والأكثر مرارة في حياتي.

حميد (الأصغر بين  إخوته) أصيب في سن الحادية عشر بسرطان الدم، و توفي بعد صراع مع  المرض  دام ثلاث سنوات.

لست  هنا  بصدد رثاء قريبي وذكر  محاسنه وشيمه التي كانت تعكس إسمه،  فقد كان بالفعل إسما على مسمى،  ولكني سأحكي عن جزء من   تجربتي مع  هذا الطفل-الرجل  المميز، الذي اشتقت  إليه كثيرا ولكم  أحب أن أوجه  له رسالة تصله ويحس بما أشعر به، ويطلع على ما فعلته في غيابه طيلة هذه السنوات.

" عزيزي الصغير،

لقد مضت 7 سنوات على رحيلك من هذه الدنيا، ومع ذلك مازلت ترن في أذني كلمات أختي الصغرى (محبوبتك) وهي  تنقل لي الخبر-المصيبة.وكأنه الأمس، هذا الأمس الذي يحمل أيضا ذكرياتي الجميلة معك...

لقد اشتقت لابتسامتك البريئة، إلى تلك العينين البراقتين التين كانتا تشعان أملا وتتجاوزان براءة الأطفال إلى النضج المبكر الذي جعلني أنبهر بشخصيتك المميزة...ومازلت   أقول إننا فقدنا رجلا غير عادي.

أتذكر كل شيء، حتى لحظات الطفولة... قسوتي عليك كلما تجرأت على العبث بألعابي واقتحام عالمي الخاص... معاركنا ومغامراتنا...مازال صراخك باسمي يرن أيضا في أذني...حتى الأغاني وأفلام الكرتون التي كنت تعشقها مازلت أتذكرها وأحفظها وإن كنت أحاول أن أتحاشاها لأنها تذكرني بنشوتك الطفولية وأنت تستمتع  بها...

لقد اشتقت إليك كثيرا...وعندما يعود بي الزمن للوراء وأتذكر مرحلة المرض المشؤوم أكره نفسي...لأني كنت أرى جسمك الهزيل يتهاوى أمامي...كنت أرى ذلك الوحش ينخرك دون رحمة ويقتلك ببطء، وينزع حيويتك وابتسامتك بينما أنا أتفرج عاجزة...لا أملك سوى دموعي ودعائي.. لكم تمنيت أن أفعل شيئا لأخفف معاناتك التي تجاوزت كثيرا سنك وحجم جسدك الصغير..تمنيت لو حملت عنك ألم المرض ولو لثوان تسترجع فيها ابتسامتك التي كانت تحمل معنى الحياة...كنت أعتقد أن النهاية ستكون منصفة لك، وأن الدنيا ستعوضك على كل آلامك وصرخاتك...على غرار الأفلام التي ينتصر فيها الأبطال الطيبون الصابرون...وتتزوج في النهاية ب(ليلى) أختي الصغيرة التي أحببتها بجنون الأطفال..أتألم ويتقطع قلبي كلما رأيت اسميكما الذين نقشتهما أوكتبتهما أنت في بعض أرجاء بيتنا، حين كان قلبك الصغير يحلم ويخطط لارتباطكما... لكم تمنيت  أن يسعفك القدر لنعيش هذا...

هل هناك أقسى من أن تجعل الدنيا طفلا صغيرا يضم أمه ويقول لها أنه يخشى أن يموت ويبتعد عنها؟...هل هناك أبشع من أن تجعل الدنيا طفلا في عمر الزهور يتحرك ويأكل ويرتدي حسب ما تصفه وصفات الأطباء...هل من العدل أن يتحمل طفل صغير كل تلك الآلام ليموت في النهاية ولتتغلب قسوة المرض وشروره على طيبته الملائكية؟

أينك  الآن؟ هل تراني؟ هل تعلم أني أشتاق لك وأفكر فيك؟ وأحن لكلماتك التي كانت تشجعني كلما أحسست بالانكسار...لقد جعل الله فيك قدرا من  الحكمة والحلم كان يجعل المحيطين بك بمن فيهم أنا يعاملونك على أنك رجل مسؤول وواع...

وحتى  صوتي الذي أحببته يحن للغناء لك أيها الأمازيغي الصغير...لقد تركت ألغازا عجزنا جميعا عن فكها لعل أهمها معاملتك الاستثنائية لي... حميد، أذكر  ملعقة الزبادي التي كنت ترفض تناولها لأنها كانت تنزل  إلى معدتك الصغيرة  بطعم  العلقم، مهما كانت الإغراءات، حتى توسلات  أمك لم تكن تجدي ...بينما كنت-أمام انبهار الجميع- تقبل ذلك عندما  أترجاك  أنا لتفعل...كانت طلباتي أنا فقط لا ترفض ..أتذكر أيام  كنت تدافع  عني بشراسة ضد شقيقاتك كلما تخاصمت  معهن...

صغيري،  هل  تعلم أن أكثر ما يقتلني الآن هو أنك رحلت دون أن تحكي عن  سر  هذه  المعاملة وهذه  المحبة التي أفتقدها  كثيرا...هل تعلم أن غيابك   ينغص علي كل إنجازاتي وانتصاراتي، وأن طعم النجاح في غيابك أقل حلاوة؟

أما فأنا سأبقى هنا أحمل جزءا من روحك، وجزءا من المحبة التي زودتني بها، إلى أن يتذكرني القدر ويحين دوري وألتحق بك حيث أنت..."