الوادي والموت والقمر

نجاة غفران


تعودت على أن أتجول ليلاً في المنزل عندما ينامون. أتمشى حافية القدمين في الممرات الطويلة، وغلالة نومي الرقيقة تلتف حول ساقي وتبطئ خطواتي. أتلصص أمام أبواب غرفهم، أترقب حركات أجسادهم على الأسرة، أصوات أنفاسهم، رجع صدى كوابيسهم... ربما... إن كانوا يرونها... إن كان ثمة عدل في هذه الدنيا.
أتسلل كالأشباح بين ممرات الفيلا الفخمة، أصعد إلى الطابق الثاني، أخطو كما لو كنت أطير، لا حس لقدمي وهما تلمسان الأرضية المغطاة بسجاد قرمزي داكن، سجاد فاخر بلون الدم القاني الذي يبس بعد ساعات طوال من جريانه غضاً، ساخناً، موجعاً.
ينقبض قلبي وأنا أنهي تجوالي في الركن الأبعد في الطابق، حيث البلكونة الدائرية التي تطل على الوادي، حيث الذكريات.
أتعلق بسياجها الحجري الأنيق، وأرفع وجهي إلى السماء وأنظر للقمر. عامان والألم هنا، والنزيف لا ينقطع.
لا أنام ليلاً. لا أستطيع. عندما فعلتها آخر مرة فقدت كل شيء، وصرت ما أنا عليه اليوم. أشلاء إنسان.
أنظر إلى الوادي، حيث هوت سيارة والديّ، وأرى نفسي من جديد، أفتح عيني فجأة وأسمع صوت الاصطدام، وصرخة السائق، والغبار والدماء والموت القريب.
كنا عائدين من سهرة في الميناء. واحدة من عشرات السهرات التي نرافق فيها والدي لعشاءات عمله الهامة. أحد زبائنه الروس أقام حفلة أسطورية في يخته الفخم. موسيقى وأكل وشراب ومدعوون منتقون بعناية. ووالدي يملأ صدره بهجة وهو يحدثنا أثناء انتظارنا السيارات عن صفقته الجديدة مع الروس. استقل وأمي كالعادة السيارة الأولى، وصعدت إلى الثانية، ولحقتنا المرسديس السوداء الثالثة في الخلف. لا أدري لم يصر دائماً على أن أفترق عنهما. فرقة حراسنا الشخصيين موزعة على السيارات الثلاث. سائقي يسألني إن كان كل شيء على ما يرام. سهيل ليس فقط موظفاً لدى والدي، هو أيضاً زميل دراسة وصديق وفي. وعما قريب عندما ينهي خدمته عندنا، سيلتحق بإحدى مديريات الأمن.
لا أدري ما حصل، ولا كيف حصل. أعداء والدي كثر، والمخططون للحادث لا زالوا مجهولين، لكن سرب السيارات التي لحقت بنا ودفعتنا إلى الوادي لم يكن من محض الخيال.
لا أدري كيف نجوت. لكنني عندما فتحت عيني وجدت نفسي مغطاة بالدماء في سيارة متأرجحة على حافة الهاوية. سيارة مقلوبة. وسائقها المجروح يزحف بببطء نحوي وكلماته المهدئة تطالبني بأن أتشبث به وأتحرك حيث يشير.
سهيل أنقذني. لكن والداي لم يحظيا بفرصة عيش ثانية.
أرتجف وثوب نومي الخفيف لا يقيني برد الليل. أتحسس ندوب ذراعي. تعافت جروحي لكن حياتي لم تتوقف عن التحول إلى جحيم منذ فقدت أمي وأبي.
حلت العائلة سريعاً «لتحضنني»... كما تدعي. عمي وزوجته وأولاده. حضن سامّ، جعلني أدرك لم قطع أبي علاقته بأخيه منذ زمن.
قال بأنه سيمسك أعمال أبي لحين أتعافي. لست قاصراً، ولا يمكنه أن يدعي الوصاية علي، ولكن رقادي الطويل في المستشفى سهل له أمر استلام القيادة. أسمعه وزوجته يناقشون حياتي. لا يمكن أن تضيع أموال العائلة. سيزوجوني لابنهم الأكبر. أو... لا. لديه زوجة وأولاد... وهو في كل الأحوال لن يستطيع التحكم بي... يكفي ما تفعله زوجته به. سيأخذني الابن الثاني. لكن يجب أولاً الحديث معه. أو ربما الأصغر. صحيح. هو أصغر مني بثلاث سنوات. لكنه حذق وماكر، والفارق ليس مهما.
أولادهم أيضاً يناقشون أموري. الابنة الوحيدة تريد الحصول على بعض من مقتنيات أمي. لقد فتشت أغراضها ورأت الثياب والجواهر. وزوجها يحتاج لمنصب راق في إحدى شركات أبي. منصب مسؤول. وبعض سياراتنا تروق له. ومنزلنا على الشاطئ أيضاً. وشاليه الجبل. ولا أدري ماذا أيضاً.
كواسر. مجموعة كواسر جاءت تنهش في بقايا والداي، وتخطف تركته. وأنا... ماذا عني في كل هذا...؟
أنظر حولي بوجع وأفكر بأنني سأفتقد كل هذا.
أتنهد وأدير ظهري للوادي، للموت، للقمر... وأواصل تجوالي الليلي وأنفاسي تتسارع وأنا أراجع قراراتي المحمومة الأخيرة. سهيل وافق أخيراً. بعد طول إلحاح مني. وافق.
تخلص عمي منه عندما رآني أتشبث به وأطلب رفقته في المستشفى. استغنى عن خدمته، لكنني بقيت على اتصال به.
وضبت كل شيء. سنتزوج قريباً. كل الوثائق جاهزة. سيصبح شريك حياتي، الشخص الوحيد الذي أثق به، وآمن له، وأعتمد عليه، وسيستلم أعمال أبي ويديرها بموازاة مع تعاونه مع الشرطة للبحث عن مخططي الحادثة.
وعدني بأن يستمر في ذلك حتى يصل إلى المذنبين.
زميل دراستي، وصديقي، وأعرفه. لن يخذلني، ولن يخلف وعوده لي.