القفز فوق المشاعر

نجاة غفران


كانت الصفعة التي وجهها لها وهما يتشاجران أمام مائدة العشاء القطرة التي أفاضت الكأس. تحسست خدها المحمر، وعيناها تفيضان بدموع القهر والإحباط، وجرت إلى الغرفة تضرب بالباب خلفها، وترمي حقيبة السفر على السرير، وتبدأ في تكديس ملابسها فيها.
سمعته يشتم العالم بانفعال، ويمشي ويجيء في الشقة كالوحش السجين. يقترب من الغرفة ويبتعد لينتهي بضرب شيء ما بالحائط ومغادرة المكان بضجة.
صفق بالباب خلفه. وساد الصمت.


لا يمكن لهما أن يستمرا هكذا. تصالحه ليغضب، ويطيب خاطرها لتفقد أعصابها بجنون. مشاكلهما لا تنتهي. خرجاته المهنية المزعومة مع سكرتيرته الشابة، وتنقلاتها الطارئة صحبة ضيوف الإذاعة التي تعمل فيها حولت حياتهما إلى جحيم. ثقتهما في بعض منعدمة. هي لا ترتاح لغنج السكرتيرة اللعينة، وهو يتخيل أشياء كثيرة عندما تبعثها الإذاعة لاستقبال نجم، أو للسفر لتغطية مهرجان. كيف لم يفكرا في استحالة التعايش بينهما وهما عاجزان عن تقبل متطلبات بعضهما المهنية؟ لا تدري. يقولون بأن مرآة الحب عمياء. 
قد يكون ذلك صحيحاً.


جرت حقيبتها خارج الغرفة ونظرت لمائدة العشاء التي لم تمس. منحتها مسؤولة القسم الفني يومي راحة بعد عودتها من مهرجان التانغو. تقاريرها اليومية لاقت نجاحاً كبيراً، وفرحتها بردود فعل الجمهور دفعتها للتفكير بالاحتفال بذلك رفقة زوجها الذي لم تره منذ أسبوعين. قضت اليوم في المطبخ، تعد له الأطباق التي يحبها، وتجهز المائدة. مرت الساعات بطيئة وهي تنتظره. حاولت الاتصال به دون جدوى، وحين رد هاتفه أخيراً، فوجئت بسكرتيرته تعلمها بأنه مشغول، وسيتأخر حتماً في العودة إلى البيت. «هذا إن عاد...» همست الشابة بخبث وهي تضحك، وأنهت المكالمة.
بقيت تنتظره حتى منتصف الليل، ودمها يغلي.


دخل. نظر إليها، ثم إلى المائدة المزينة بالشموع، وسألها إن كانت تلك هي طريقتها للاعتذار.
عماذا؟ سألته بحنق. ورد بأن العالم كله رأى صورها الفاضحة مع راقصي التانغو الأجانب. امرأة متزوجة تسهر الليالي وتجالس راقصين تظهر ملابسهم أكثر مما تخفي والله وحده يعلم ماذا تفعل معهم أيضاً.
«هذا كل ما وجدته لتبرر ليلتك المشبوهة مع الصعلوكة التي تعمل في مكتبك؟» صرخت في وجهه، وارتفعت أصواتهما ومد يده عليها بكل صفاقة...
رمت الحقيبة في السيارة، وغادرت المكان بعجل.


لم تعرف أين تذهب. أهلها بعيدون، وصداقاتها مقتصرة على شلة الشغل، ولا رغبة لديها في نشر غسيلها الوسخ بينهم.
بعد طول سير في الطرقات قررت مغادرة المدينة واتجهت نحو الجسر الخارجي، وهدر المحرك بصوت غريب، ثم توقف.
حاولت تشغيله دون جدوى. نزلت وهي ترتجف. ريح الخريف الليلية باردة جداً. أنارت مصباح هاتفها وتفقدت المحرك طويلاً دون أن تفهم ما يحدث. نظرت حولها بأسى. الوقت متأخر والظلام يلف المكان. توجهت نحو حاجز الجسر وتأملت مياه النهر العميقة وفكرت في أنها ربما بالغت في ردة فعلها. كان عليها أن تطمئنه. الصور التي نشرت في موقع الإذاعة دعاية لبرنامجها، ولقاءاتها مع راقصي التانغو لم تتعد الحدود المهنية أبداً. 


تنهدت. كان عليها أن تسأله عن سبب تأخيره أيضاً، وتستمع إليه. سكرتيرته تكرهها... وتحاول من زمان أن تبعده عنها. كان عليها أن تكون أذكى وتعرف كيف تتصرف معها.
شدت ذراعيها حول صدرها بحثاً عن بعض الدفء، وغادرت المكان وهي تتساءل إن كانت ستجد سيارة أجرة تعيدها إلى بيتها.
لمحت مقهى غير بعيد، وتوجهت نحوه وهي ترتجف.


لم تكد تنهي فنجان القهوة الساخنة الذي قدمه لها النادل، حتى سمعت لغطاً في الخارج، ونهض زبونان جالسان غير بعيد عنها يتفقدان الأمر، ولحق بهما النادل.
ارتفعت منبهات سيارة شرطة، وعاد النادل يخبر صاحب المقهى: « فظيع... امرأة مسكينة رمت نفسها في النهر... ركنت سيارتها على الجسر وقفزت... زوجها يصرخ كالمجنون ويريد اللحاق بها... والشرطة تحاول ردعه... شجار سخيف دفعها للانتحار على ما يبدو... عالم مجنون...»
قفزت من مقعدها ونحَّت النادل بعنف، وجرت خارجاً وهي تنادي زوجها وتبكي.